تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 375 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 375

375 : تفسير الصفحة رقم 375 من القرآن الكريم

** قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نّظُنّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها, تشابهت قلوبهم حيث قالوا {إنما أنت من المسحرين} يعنون من المسحورين كما تقدم {وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين} أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا {فأسقط علينا كسفاً من السماء} قال الضحاك: جانباً من السماء. وقال قتادة: قطعاً من السماء. وقال السدي: عذاباً من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوع} إلى أن قالوا {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيل} وقوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الاَية, وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة {فأسقط علينا كسفاً من السماء} الاَية, {قال ربي أعلم بما تعملون} يقول: الله أعلم بكم, فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به, وهو غير ظالم لكم, وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقاً, ولهذا قال تعالى: {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم, فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام, لا يكنهم منه شيء, ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم, فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر, فلما اجتمعوا كلهم تحتها, أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً, ورجفت بهم الأرض, وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم, ولهذا قال تعالى: {إنه كان عذاب يوم عظيم}.
وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن, كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين, وذلك لأنهم قالوا {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتن} فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة, وفي سورة هود قال {فأخذتهم الصيحة} وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء, فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم, فقال {فأخذتهم الصيحة} الاَية, وههنا قالوا {فأسقط علينا كسفاً من السماء} الاَية, على وجه التعنت والعناد, فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم}.
قال قتادة: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء, ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة, فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها برداً وراحة, فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعاً فاستظلوا تحتها فأججت عليهم ناراً, وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس, فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى, وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها, فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد, ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم, فأرسل الله عليهم الظلة, فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلاً أطيب ولا أبرد من هذا, هلموا أيها الناس, فدخلوا جميعاً تحت الظلة, فصاح بهم صيحة واحدة, فماتوا جميعاً, ثم تلا محمد بن كعب {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم}.
وقال محمد بن جرير: حدثني الحارث, حدثني الحسن, حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا حاتم بن أبي صغيرة, حدثني يزيد الباهلي, سألت ابن عباس عن هذه الاَية {فأخذهم عذاب يوم الظلة} الاَية, قال: بعث الله عليهم رعداً وحراً شديداً, فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية, فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس, فوجدوا لها برداً ولذة, فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. قال ابن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين, وإن ربك لهو العزيز الرحيم} أي العزيز في انتقامه من الكافرين, الرحيم بعباده المؤمنين.

** وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ * عَلَىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ
يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وإنه} أي القرآن ذكره في أول السورة في قوله {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} الاَية {لتنزيل رب العالمين} أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك {نزل به الروح الأمين} وهو جبريل عليه السلام, قاله غير واحد من السلف: ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج, وهذا مما لا نزاع فيه. قال الزهري: وهذه كقوله {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه} وقال مجاهد: من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض {على قلبك لتكون من المنذرين} أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى {على قلبك} يا محمد سالماً من الدنس والزيادة والنقص {لتكون من المنذرين} أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه, وتبشر به المؤمنين المتبعين له.
وقوله تعالى: {بلسان عربي مبين} أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك, أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل, ليكون بيناً واضحاً ظاهراً, قاطعاً للعذر, مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي, حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم «كيف ترون بواسقها ؟» قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال «فكيف ترون قواعدها ؟» قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال «فكيف ترون جريها ؟» قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال «فيكف ترون رحاها استدارت» قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها. قال «فكيف ترون برقها: أوميض أم خَفق أم يشق شقاً ؟» قالوا: بل يشق شقاً. قال «الحياء الحياء إن شاء الله». قال: فقال رجل: يا رسول الله, بأبي وأمي, ما أفصحك, ما رأيت الذي هو أعرب منك. قال: فقال «حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول {بلسان عربي مبين}» وقال سفيان الثوري: لم ينزل وحي إلا بالعربية, ثم ترجم كل نبي لقومه, واللسان يوم القيامة بالسريانية, فمن دخل الجنة تكلم بالعربية, رواه ابن أبي حاتم.

** وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأوّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىَ بَعْضِ الأعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ
يقول تعالى: وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه, كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} والزبر ههنا هي الكتب, وهي جمع زبور, وكذلك الزبور وهو كتاب داود, وقال الله تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة, ثم قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها, والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته, كما أخبر بذلك من آمن منهم, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم, قال الله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} الاَية.
ثم قال تعالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به, ولهذا قال {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} كما أخبر عنهم في الاَية الأخرى {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارن} الاَية, وقال تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} الاَية, وقال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الاَية.

** كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مّتّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَىَ وَمَا كُنّا ظَالِمِينَ
يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد, أي أدخلناه في قلوب المجرمين {لا يؤمنون به} أي بالحق {حتى يروا العذاب الأليم} أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم, ولهم اللعنة ولهم سوء الدار {فيأتيهم بغتة} أي عذاب الله بغتة {وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون} أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله, كما قال الله تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ـ إلى قوله ـ ما لكم من زوال} فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً, هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ـ إلى قوله ـ قال قد أجيبت دعوتكم} فأثرت هذه الدعوة في فرعون, فما آمن حتى رأى العذاب الأليم {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ـ إلى قوله ـ وكنت من المفسدين} وقال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} الاَيات.
وقوله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون} إنكار عليهم وتهديد لهم, فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً: ائتنا بعذاب الله, كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} الاَيات, ثم قال {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال, ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاه} وقال تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} وقال تعالى: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} ولهذا قال تعالى: {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}.
وفي الحديث الصحيح «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط ؟ هل رأيت نعيماً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا, فيصبغ في الجنة صبغة, ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب» أي ما كأن شيئاً كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:
كأنك لم تؤثر من الدهر ليلةإذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم, والإنذار لهم, وبعثة الرسل إليهم, وقيام الحجة عليهم, ولهذا قال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين} كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسول} وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا ـ إلى قوله ـ وأهلها ظالمون}.